درس الجوع في رمضان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ،
أما بعد : فإن لرمضان دروساً تربويةً عظيمةً تدخل في بناء شخصية المسلم ،
وتكوين خُلُقه ، إلا أن درساً تربوياً مهماً من دروس رمضان نغفل عنه وننساه ،
بل ربما سعينا لمحو آثاره من نفوسنا أولاً بأول ،
إنه درس الجوع الذي كان يتلذذ به سلفنا الصالح,
كما يتلذذ أحدنا بأكل اللحم والحلوى،
لقد كان السلف يتلذذون ويتفننون في دفع الشِّبع عن بطونهم ،
كما يتلذذ أحدنا بدفع الجوع عن بطنه بأنواع الطعام .
إن في الجوع : رقة القلب ، ودمع العين ، وصفاء العقل ،
ونفاذ البصيرة ، وطولَ العبادة ، وقلَّة النوم ، فمن ملك بطنه غالباً ما يملك نفسه ،
ومن ملك نفسه: ملك أخلاقه ، ومن ملك أخلاقه : ثقل ميزانه يوم القيامة .
إن قلَّة الطعام تُورث صاحبها الانكسار والتواضع ،
وتذهب عنه الأشر والبطر والكبر، وتذكِّره بالفقراء والمساكين ،
إضافة إلى الصحة العامة ،
والسلامة من أمراض التخمة والشِّبع ،
التي تفتك بصاحبها ، وربما قتلته .
والبطن ينبوع الشهوات ، وبيت الداء والآفات ،
يتقوَّى الشيطان بامتلائها , فيجري في الإنسان مجرى الدم ،
وما أُتي آدم عليه السلام، فأخرج من الجنة ،
ولقي ما لقي إلا من جهة الأكل ، وهي فتنة ذريته من بعده ،
يُفتنون ببطونهم ، ماذا يقذفون فيها ,
بين قليل وكثير ، من حلال وحرام؟ .
جاء أبو جُحيفة رضي الله عنه إلى رسول الله r ،
وقد شبع من لحم وسمن ، فتجشَّأ عند رسول الله
فقال له : « اُكفف عنا جشاءك أبا جُحيفة ؛
فإن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولُهم جوعاً يوم القيامة » ،
فما شبع أبو جحيفة رضي الله عنه بعدها .
وكان الصحابة – رضي الله عنهم –لا يحبون الرجل السمين ،
ويعاتبونه على كثرة الطعام ؛ ولهذا قلَّ السِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِّمن في الصحابة, وإنما هو من عيوب أهل آخر الزمان ، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : « أول بدعة حدثت بعد رسول الله الشِّبع ،
إن القوم لما شبعت بطونُهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا » ؛
يعني أقبلوا بعد الشبع على الدنيا ؛ ولهذا كان الرسول r يقول:
« ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال:
بيت يستره ، وثوب يواري عورته, وجـِلْفُ الخبز والماء » .
وقد كان رسول الله r هو القدوة في ذلك ،
فقد لازمه الجوع طول حياته حتى قُبض ، فما شبع من طعام قط ،
ولا رأى مُنخلا ، ولا خبزاً مُرقَّقاً ، ولا رأى شاة مشوية قط ،
وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع ،
ويُعرف أثر الجوع في وجهه وصوته عليه الصلاة والسلام ،
وما كان ذلك يُنقص من قدره شيئاً ،
وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عُمَرُ رضي الله عنه :
« لقد رأيت رسول الله r يظلُّ اليوم يلتوي ،
ما عنده ما يملأ بطنه من الدَّقَل » ؛ يعني ما عنده من رديء التمر ما يملاْ به بطنه ،
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها :
« ما شبع رسول الله r ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا ،
ولو شئنا لشبعنا ، ولكن كنا نُؤثر على أنفسنا » .
جاءت مرَّة السيدة فاطِمةُ رضي الله عنها بكِسرة خبز إلى رسول الله r تطعمه إياها،
فسألها عنها فقالت : « قرص خبزته, فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكِسرة ،
فقال : أما إنه أولُ طعام دخل بطن أبيك منذ ثلاثة أيام » .
لقد كان الجوع يصيب الصحابة – رضي الله عنهم -
حتى إن أحدهم يقلق من الجوع ، فيخرج من بيته لعله يجد ما يملأ به بطنه ،
يقول عتبةُ بنُ غزوان رضي الله عنه
: « لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله r قريباً من شهر رمضان ،
مالنا طعام إلا ما نُصيب من أوراق الشجر، حتى قَرحت أشداقنا من أكل الشجر » ،
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن إمرته يأكل في اليوم إحدى عشرة لقمة ،
فعاتبه الناس في ذلك ، فقال : « والله إني لأشتهي الطعام ،
إني لآكل السمنَ وعندي اللحم ، وآكل الزيت وعندي السمن ،
وآكل الملح وعندي الزيت، ولكن صاحبيَّ سلكا طريقاً ، فأخاف اختلافهما ، فيُخالفُ بي » ،
يعني أنه يأخذ بالأدنى من الطعام وهو قادر على الأعلى إيثاراً ,
ورغبة في الاقتداء بالرسول r وأبي بكر رضي الله عنه،
وجاء مرة رجل بشراب لعبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما يساعد على الهضم ،
فقال عبد الله :« مالي وله ، ما شبعت منذ أسلمت » .
قال سفيان الثوري رحمه الله : « بـِتُ عند الحجاج بن الفرافصة أربعة عشر ليلة ،
فما رأيته أكل ولا شرب ولا نام » ،
وكلَّف الربيع بن خثيم رحمه الله أهله بصناعة بعض الحلوى،
فلما قُدِّمت له أتى برجل مجنون, وأخذ يطعمه الحلوى بيده ،
فأنكر عليه أهلُهُ ، وقالوا عن المجنون : « هو لا يدري ما يأكل» ، فقال الربيع : «ولكن الله يدري ».
ولقد كان موسم التمر من الرطب والفاكهة تمر على بعض السلف فلا يأكل منها حبة واحدة ،
وكان بعضهم لا يسأل أهله صناعة الطعام ولا أنواعه ،
إن وجد شيئاً أكل يسد جوعه ، وإن لم يجد لا يسأل ولا يبحث ،
وربما مات أحدهم فإذا جاءوا إلى غسله ، فعصروا بطنه لا يخرج منه شيء،
يعيش أحدهم طاوياً, ويموت طاوياً ، يرجو ما عند الله تعالى ،
يقول الحسن البصري رحمه الله :
«لقد كان أحدهم يأكل الأكلة فيتمنى أن تبقى في بطنه كما تبقى الآجرَّة في الماء ، فتكون زَاده من الدنياَ».
وحتى لا يُفهم الموضوع على غير وجهه فليس الجوع فرضاً واجباً على المسلم
إلا أن يكون صياماً واجباً ، وإنما هو مدرسة تربوية مستقلة ،
لها منهجها وآدابها ، وهو دأب السلف وأهل الآخرة ،
أخذ به الصالحون من هذه الأمة ، ومن قبلهم من أهل التوحيد .
وأما ضابط هذا المسلك التربوي ،
هو ألا يجوع جوعاً يقعده عن القيام بالواجبات الشرعية والاجتماعية،
وإنما هو جوع يملك عليه نفسه ، فيسوقُها في مراضي الله تعالى ،
ليرقق به قلبه ، ويصلحَ به أخلاقه وسلوكه ،
وضابطه أيضاً ألا يحزن على طعام فاته ،
ولا يبالي بأي طعام أسكَن جوعه، مهما كان رديئاً ،
مادام أنه حلال طيب ، كما أن الشِّبع ليس بحرام ،
وإن أشدَّ ما فيه الكراهة ، وإنما الممنوع أن يأكل فوق حاجته فيضرَّ نفسه ويُهلكها ،
ثم إن دوام الجوع أن يأكل المسلم دون حدِّ الشِّبع ،
فمن فعل ذلك فقد جاع ، ونهج التدرُّج التربوي هو الطريق لذلك ،
قال مالك رحمه الله لأحد أصحابه :
« احفظ عني اثنتين ، لا تبيتنَّ وأنت شبعان ، ودع الطعام وأنت تشتهيه ».
اللهم أشبع بطوننا بالحلال ، وحصِّن فروجنا عن الحرام،
واستر عيوبنا عن الأنام ,
واختم بالصالحات آجالنا يا أرحم الراحمين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ،
أما بعد : فإن لرمضان دروساً تربويةً عظيمةً تدخل في بناء شخصية المسلم ،
وتكوين خُلُقه ، إلا أن درساً تربوياً مهماً من دروس رمضان نغفل عنه وننساه ،
بل ربما سعينا لمحو آثاره من نفوسنا أولاً بأول ،
إنه درس الجوع الذي كان يتلذذ به سلفنا الصالح,
كما يتلذذ أحدنا بأكل اللحم والحلوى،
لقد كان السلف يتلذذون ويتفننون في دفع الشِّبع عن بطونهم ،
كما يتلذذ أحدنا بدفع الجوع عن بطنه بأنواع الطعام .
إن في الجوع : رقة القلب ، ودمع العين ، وصفاء العقل ،
ونفاذ البصيرة ، وطولَ العبادة ، وقلَّة النوم ، فمن ملك بطنه غالباً ما يملك نفسه ،
ومن ملك نفسه: ملك أخلاقه ، ومن ملك أخلاقه : ثقل ميزانه يوم القيامة .
إن قلَّة الطعام تُورث صاحبها الانكسار والتواضع ،
وتذهب عنه الأشر والبطر والكبر، وتذكِّره بالفقراء والمساكين ،
إضافة إلى الصحة العامة ،
والسلامة من أمراض التخمة والشِّبع ،
التي تفتك بصاحبها ، وربما قتلته .
والبطن ينبوع الشهوات ، وبيت الداء والآفات ،
يتقوَّى الشيطان بامتلائها , فيجري في الإنسان مجرى الدم ،
وما أُتي آدم عليه السلام، فأخرج من الجنة ،
ولقي ما لقي إلا من جهة الأكل ، وهي فتنة ذريته من بعده ،
يُفتنون ببطونهم ، ماذا يقذفون فيها ,
بين قليل وكثير ، من حلال وحرام؟ .
جاء أبو جُحيفة رضي الله عنه إلى رسول الله r ،
وقد شبع من لحم وسمن ، فتجشَّأ عند رسول الله
فقال له : « اُكفف عنا جشاءك أبا جُحيفة ؛
فإن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولُهم جوعاً يوم القيامة » ،
فما شبع أبو جحيفة رضي الله عنه بعدها .
وكان الصحابة – رضي الله عنهم –لا يحبون الرجل السمين ،
ويعاتبونه على كثرة الطعام ؛ ولهذا قلَّ السِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِّمن في الصحابة, وإنما هو من عيوب أهل آخر الزمان ، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : « أول بدعة حدثت بعد رسول الله الشِّبع ،
إن القوم لما شبعت بطونُهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا » ؛
يعني أقبلوا بعد الشبع على الدنيا ؛ ولهذا كان الرسول r يقول:
« ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال:
بيت يستره ، وثوب يواري عورته, وجـِلْفُ الخبز والماء » .
وقد كان رسول الله r هو القدوة في ذلك ،
فقد لازمه الجوع طول حياته حتى قُبض ، فما شبع من طعام قط ،
ولا رأى مُنخلا ، ولا خبزاً مُرقَّقاً ، ولا رأى شاة مشوية قط ،
وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع ،
ويُعرف أثر الجوع في وجهه وصوته عليه الصلاة والسلام ،
وما كان ذلك يُنقص من قدره شيئاً ،
وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عُمَرُ رضي الله عنه :
« لقد رأيت رسول الله r يظلُّ اليوم يلتوي ،
ما عنده ما يملأ بطنه من الدَّقَل » ؛ يعني ما عنده من رديء التمر ما يملاْ به بطنه ،
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها :
« ما شبع رسول الله r ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا ،
ولو شئنا لشبعنا ، ولكن كنا نُؤثر على أنفسنا » .
جاءت مرَّة السيدة فاطِمةُ رضي الله عنها بكِسرة خبز إلى رسول الله r تطعمه إياها،
فسألها عنها فقالت : « قرص خبزته, فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكِسرة ،
فقال : أما إنه أولُ طعام دخل بطن أبيك منذ ثلاثة أيام » .
لقد كان الجوع يصيب الصحابة – رضي الله عنهم -
حتى إن أحدهم يقلق من الجوع ، فيخرج من بيته لعله يجد ما يملأ به بطنه ،
يقول عتبةُ بنُ غزوان رضي الله عنه
: « لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله r قريباً من شهر رمضان ،
مالنا طعام إلا ما نُصيب من أوراق الشجر، حتى قَرحت أشداقنا من أكل الشجر » ،
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن إمرته يأكل في اليوم إحدى عشرة لقمة ،
فعاتبه الناس في ذلك ، فقال : « والله إني لأشتهي الطعام ،
إني لآكل السمنَ وعندي اللحم ، وآكل الزيت وعندي السمن ،
وآكل الملح وعندي الزيت، ولكن صاحبيَّ سلكا طريقاً ، فأخاف اختلافهما ، فيُخالفُ بي » ،
يعني أنه يأخذ بالأدنى من الطعام وهو قادر على الأعلى إيثاراً ,
ورغبة في الاقتداء بالرسول r وأبي بكر رضي الله عنه،
وجاء مرة رجل بشراب لعبد الله بن عُمَر رضي الله عنهما يساعد على الهضم ،
فقال عبد الله :« مالي وله ، ما شبعت منذ أسلمت » .
قال سفيان الثوري رحمه الله : « بـِتُ عند الحجاج بن الفرافصة أربعة عشر ليلة ،
فما رأيته أكل ولا شرب ولا نام » ،
وكلَّف الربيع بن خثيم رحمه الله أهله بصناعة بعض الحلوى،
فلما قُدِّمت له أتى برجل مجنون, وأخذ يطعمه الحلوى بيده ،
فأنكر عليه أهلُهُ ، وقالوا عن المجنون : « هو لا يدري ما يأكل» ، فقال الربيع : «ولكن الله يدري ».
ولقد كان موسم التمر من الرطب والفاكهة تمر على بعض السلف فلا يأكل منها حبة واحدة ،
وكان بعضهم لا يسأل أهله صناعة الطعام ولا أنواعه ،
إن وجد شيئاً أكل يسد جوعه ، وإن لم يجد لا يسأل ولا يبحث ،
وربما مات أحدهم فإذا جاءوا إلى غسله ، فعصروا بطنه لا يخرج منه شيء،
يعيش أحدهم طاوياً, ويموت طاوياً ، يرجو ما عند الله تعالى ،
يقول الحسن البصري رحمه الله :
«لقد كان أحدهم يأكل الأكلة فيتمنى أن تبقى في بطنه كما تبقى الآجرَّة في الماء ، فتكون زَاده من الدنياَ».
وحتى لا يُفهم الموضوع على غير وجهه فليس الجوع فرضاً واجباً على المسلم
إلا أن يكون صياماً واجباً ، وإنما هو مدرسة تربوية مستقلة ،
لها منهجها وآدابها ، وهو دأب السلف وأهل الآخرة ،
أخذ به الصالحون من هذه الأمة ، ومن قبلهم من أهل التوحيد .
وأما ضابط هذا المسلك التربوي ،
هو ألا يجوع جوعاً يقعده عن القيام بالواجبات الشرعية والاجتماعية،
وإنما هو جوع يملك عليه نفسه ، فيسوقُها في مراضي الله تعالى ،
ليرقق به قلبه ، ويصلحَ به أخلاقه وسلوكه ،
وضابطه أيضاً ألا يحزن على طعام فاته ،
ولا يبالي بأي طعام أسكَن جوعه، مهما كان رديئاً ،
مادام أنه حلال طيب ، كما أن الشِّبع ليس بحرام ،
وإن أشدَّ ما فيه الكراهة ، وإنما الممنوع أن يأكل فوق حاجته فيضرَّ نفسه ويُهلكها ،
ثم إن دوام الجوع أن يأكل المسلم دون حدِّ الشِّبع ،
فمن فعل ذلك فقد جاع ، ونهج التدرُّج التربوي هو الطريق لذلك ،
قال مالك رحمه الله لأحد أصحابه :
« احفظ عني اثنتين ، لا تبيتنَّ وأنت شبعان ، ودع الطعام وأنت تشتهيه ».
اللهم أشبع بطوننا بالحلال ، وحصِّن فروجنا عن الحرام،
واستر عيوبنا عن الأنام ,
واختم بالصالحات آجالنا يا أرحم الراحمين .